المجلس المؤقت في سوريا- آمال وصعوبات نحو برلمان حقيقي
المؤلف: عمر كوش09.15.2025

يترقب أغلب الشعب السوري ببالغ الاهتمام تشكيل مجلس الشعب المؤقت، هذا المجلس الذي يمثل خطوة حاسمة في مستقبل البلاد. من المقرر أن تجرى انتخابات لاختيار ثلثي أعضائه في الفترة ما بين 15 و20 سبتمبر/أيلول الحالي، وذلك بطريقة غير مباشرة من خلال هيئات ناخبة تم تشكيلها بواسطة اللجنة العليا للانتخابات. أما الثلث المتبقي من الأعضاء، فسوف يتم تعيينهم مباشرة من قبل الرئيس أحمد الشرع.
تستحضر ذاكرة السوريين صورة قاتمة عن مجلس الشعب في ظل حكم نظام الأسد البائد، حيث كان المجلس أشبه بمنصة للتصفيق، مهمته الأساسية هي المصادقة على التشريعات والقرارات التي يصدرها النظام، دون أن يعكس مصالح الشعب أو يلبي احتياجاته. لقد كان أداة طيعة في خدمة النظام، لا أكثر ولا أقل.
في المقابل، تحتفظ الذاكرة الجمعية بصورة مشرقة للمجلس النيابي الذي قاد الحياة السياسية في فترة ما بعد الاستقلال، وصولاً إلى الوحدة السورية مع مصر في عام 1958، وهي الفترة التي شهدت تجميد الحياة السياسية وإلغاء التعددية الحزبية.
تحديات جمة
يكمن الهدف الأساسي من تشكيل مجلس الشعب المؤقت في إنهاء حالة الفراغ التشريعي التي سادت في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. وقد تفاقمت هذه الحالة بعد حل مجلس الشعب التابع للنظام السابق في 29 يناير/كانون الثاني الماضي، إلى جانب حل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يسيطر على مقاليد الحكم، فضلاً عن إلغاء العمل بالدستور وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية.
إضافة إلى ذلك، يساهم تشكيل هذا المجلس في إضفاء غطاء قانوني على العملية الانتقالية، مما يجعل السوريين يعلقون آمالاً كبيرة على هذا الجسم الجديد ليصبح محطة هامة في مسار الانتقال السياسي، وإعادة الحياة النيابية التي يتوق إليها عامة الشعب. لذا، تتجه الأنظار بشغف نحو ما سيحمله مجلس الشعب المؤقت من بشائر وأخبار سارة للسوريين.
يدرك جميع المراقبين والمحللين المعنيين بالشأن السوري مدى صعوبة إجراء انتخابات سورية حرة وشعبية شاملة في الوقت الحالي، وذلك بالنظر إلى مجموعة من الأسباب الجوهرية، والتي من أبرزها:
1. هشاشة المرحلة الانتقالية: إن طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة، والتي تتسم بالهشاشة الأمنية، تجعل من الصعب إجراء انتخابات عامة تتطلب فترة زمنية طويلة نسبياً لاستكمال الترتيبات والإجراءات اللازمة.
2. توحيد الأراضي السورية: لا يزال توحيد الجغرافيا السورية يمثل تحدياً كبيراً، حيث أن أجزاءً هامة في الشمال الشرقي والجنوبي من سوريا لا تزال خارج سيطرة الدولة، مما يعيق إجراء انتخابات شاملة.
3. إحصاء السكان: إن إجراء إحصاء سكاني شامل يواجه صعوبات جمة، خاصة مع وجود ما يقارب ثلث الشعب السوري (حوالي سبعة ملايين نسمة) في الخارج، سواء كانوا لاجئين أو منفيين أو مهاجرين. بالإضافة إلى ذلك، تسببت حركة النزوح الواسعة في فقدان العديد من النازحين لعناوينهم الموثقة.
4. بنية تحتية مهيئة للانتخابات: يتطلب إجراء انتخابات عامة وجود أرضية قانونية وإجرائية متينة، فضلاً عن وجود بنية تحتية مؤهلة لإجراء الانتخابات في دول اللجوء ومخيمات النزوح، وتوفير الأمن والأمان اللازمين لإجراء الانتخابات، وهو ما لا يتوفر عادة في المراحل الانتقالية بشكل عام، وفي سوريا على وجه الخصوص.
من المرجح أن هذه العقبات وغيرها قد دفعت لجنة الإعلان الدستوري إلى تبني هذا الإجراء المؤقت خلال المرحلة الانتقالية. ومع ذلك، فإن مسألة عدم إجراء انتخابات عامة مباشرة ستظل محط نقاش وجدل مستمر، خاصة إذا فشلت أو تعثرت هذه الإجراءات المؤقتة في تحقيق هدفها الأساسي، وهو الوصول إلى مجلس تشريعي يتمتع بحد مقبول من التمثيل العادل لكافة مكونات المجتمع السوري وفئاته، وضمان وصول الكفاءات المتميزة إليه.
النظام والشروط
حدد المرسوم الرئاسي الخاص بالنظام الانتخابي المؤقت لمجلس الشعب العدد الإجمالي للأعضاء بـ 210 مقاعد، وحصر المرسوم الترشح لعضوية البرلمان بأعضاء الهيئات الناخبة المعتمدة في القوائم النهائية، واشترط على المرشح عدم الجمع بين العضوية وأية وظيفة عامة أخرى، باستثناء التدريس الجامعي.
كما تم اعتماد نماذج موحدة للترشح من قبل اللجنة العليا، بهدف تعزيز الطابع الإداري والتنظيمي للعملية الانتخابية. وقد تم توزيع مقاعد المجلس على المحافظات وفقاً للتعداد السكاني، مع الحرص على ألاّ يقل تمثيل أي دائرة انتخابية عن مقعد واحد.
منح المرسوم اللجنة العليا للانتخابات صلاحية الإشراف الكامل على العملية الانتخابية، بما في ذلك إدارة اللجان الفرعية واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان "حرية الانتخابات وسلامتها ونزاهتها". كما وضع المرسوم مجموعة من الشروط الواجب توافرها في المترشحين، وتتلخص في:
1. عدم السماح لمن ترشح للانتخابات الرئاسية بعد العام 2011 بخوض انتخابات المجلس المؤقت.
2. منع كل من شغل عضوية مجلس الشعب أو ترشح له بعد 2011، إلا إذا أثبت انشقاقه عن النظام السابق.
3. استبعاد داعمي النظام السابق من الترشح، إضافة إلى منع دعاة الانفصال، أو من اتهم بالاستقواء بالخارج، وكذلك أعضاء المنظمات الإرهابية.
4. حظر ترشح العسكريين ومنتسبي الأجهزة الأمنية، والوزراء والمحافظين ونوابهم ومعاونيهم.
تأجيل الانتخابات
النقطة التي أثارت جدلاً واسعاً هي تأجيل الانتخابات في محافظات الرقة والحسكة والسويداء، والتي تمثل مقاعدها ما يقارب 10% من إجمالي مقاعد المجلس. وقد اقترحت اللجنة العليا للانتخابات ثلاثة خيارات بديلة، وهي إما السماح بالتصويت خارج المحافظات السورية الثلاث، أو تعيين نواب عنها تعييناً مباشراً من حصة الرئيس، أو ترك المقاعد شاغرة إلى حين زوال الظروف المانعة وتوفر الظروف الملائمة.
تبرر سلطة ما بعد نظام الأسد قرار تأجيل الانتخابات في 3 محافظات فقط، وإجرائها في باقي البلاد، بأنه مخرج اضطراري بسبب الوضع الأمني المتدهور. إلا أن الأسباب الحقيقية تتعدى الجانب الأمني لتشمل الجانب السياسي أيضاً، حيث أن قوى الأمر الواقع في هذه المحافظات لا تعترف بكل ما يصدر عن السلطة الجديدة، ومن غير الممكن عملياً إجراء انتخابات تحت إشراف تلك القوى.
كان من المتوقع أن يعلن قادة في قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وفي "الإدارة الذاتية" أنه جرى "إقصاؤهم عن العملية السياسية والاستحقاق الانتخابي"، وأن ذلك يمثل انتكاسة في مسار التفاوض وعودته إلى المربع الأول. وقد وصف البعض قرار تأجيل الانتخابات في مناطق سيطرة "قسد" بأنه إحدى الخطوات الأحادية الناقصة، والتي لا تستند إلى غطاء دستوري أو شرعية وطنية قانونية في ظل غياب مشاركة المكونات السورية في إنشاء المؤسسات السيادية للدولة.
لا يختلف الوضع في السويداء كثيراً عن الوضع في شمال شرقي سوريا، حيث لا تعترف جماعة الشيخ حكمت الهجري بالسلطة السورية الجديدة، وقد تجاوزت كل الحدود حين طالبت بالانفصال عن سوريا والانضمام إلى إسرائيل، مما أحدث شرخاً عميقاً في الوحدة الوطنية السورية.
وبالتالي، فإنه من غير الممكن إجراء الانتخابات في محافظة السويداء في ظل سيطرة مليشيات الهجري عليها، والتي تحولت إلى قوة أمر واقع فرضت على غالبية أهالي السويداء أجندتها التي لا يوافق عليها غالبيتهم.
تقييم التجربة
من الصعب في الوقت الحالي الحكم بشكل قاطع على عملية تشكيل المجلس التشريعي المؤقت، لأنها لم تدخل حيز التنفيذ الفعلي بعد. إلا أن نجاح هذه العملية يتوقف بشكل كبير على قدرتها في إيصال شخصيات تتمتع بالكفاءة والنزاهة، وتعكس تمثيلاً حقيقياً لمختلف شرائح وفئات الشعب السوري وتكويناته المتنوعة، في بلد يسعى جاهداً للتغلب على تركة نظام الأسد البائد من فساد وخراب ودمار.
إذا كان هناك معيار حقيقي للحكم على انتخابات مجلس الشعب، فهو يتمثل في نجاح كل من السلطة الجديدة والشعب السوري في اختبار قدرة كل منهما على تحمل المسؤولية الوطنية، والحرص على تقديم نموذج مدني حضاري، يمكنه أن يشكل سنداً قوياً وداعماً لعملية إعادة بناء سوريا في مرحلة ما بعد نظام الأسد.
كما أن النجاح يتطلب وضع إطار قانوني واضح ومفصل للحياة السياسية في سوريا، بما يضمن إشراك جميع السوريين في العملية الانتخابية، التي تشكل خطوة هامة نحو بناء الشرعية الدستورية. ولعل المجلس التشريعي المؤقت ليس نهاية المطاف، بل المطلوب هو أن يشكل جسراً متيناً نحو المرحلة الدستورية الدائمة، التي يستطيع المواطن السوري من خلالها ممارسة حقه الانتخابي الكامل في ظل دستور دائم وانتخابات عامة حرة ونزيهة.
لا شك أن اللجوء إلى إجراء الانتخابات يمثل أمراً إيجابياً بحد ذاته، لأنه يعكس رغبة صادقة في تنظيم المشهد السياسي المتشابك، وفتح الآفاق أمام تمثيل أوسع للشعب السوري، وبما يدشن نقطة بداية واعدة نحو مأسسة العملية السياسية، التي من المفترض أن تُستكمل بخطوات أكثر عمقاً وتأثيراً من خلال إقرار دستور جديد للبلاد، ثم إجراء انتخابات عامة وشاملة في المستقبل القريب.
لذلك، فإن السلطة الجديدة مدعوة اليوم إلى فتح حوار مجتمعي شامل وبناء، بهدف التوصل إلى توافقات وطنية على ملامح الدولة السورية الجديدة، وبما يحقق إجماعاً وطنياً على كيفية تعاطي الإدارة الحاكمة مع جميع المكونات والأطراف، وذلك وفقاً لمبدأ المواطنة المتساوية، الذي يعلو فوق جميع الولاءات العشائرية والطائفية والإثنية الضيقة.
الذاكرة التاريخية
تعود أول تجربة برلمانية في سوريا إلى عام 1919، حين تشكل المؤتمر السوري العام، والذي مثّل تجربة فريدة ومتميزة في منطقة الشرق الأوسط بأسرها. إلا أن هذه التجربة لم تستمر طويلاً بسبب الانتداب الفرنسي لسوريا في عام 1920. ورغم ذلك، لم تتوقف مطالبة السوريين بالحياة البرلمانية، وهو الأمر الذي دفع سلطات الانتداب إلى الرضوخ لهذه المطالب في عام 1923، وتشكيل المجلس النيابي برئاسة بديع العظم.
ثم استمرت الحياة النيابية في سوريا، وانتُخب المجلسان النيابيان في عامي 1936 و1943، واللذان ترأسهما فارس الخوري، ولعبا دوراً أساسياً في مسار استقلال سوريا. ومن هنا نفهم أسباب مهاجمة القوات الفرنسية للمجلس النيابي في 29 مايو/أيار 1943.
جرت أول انتخابات بعد عام واحد من جلاء القوات الفرنسية عن سوريا في عام 1946، ثم عطلت فترة الانقلابات العسكرية المتعاقبة الحياة البرلمانية حتى عام 1954، حيث عادت الحياة البرلمانية من جديد، وخاصة في الفترة ما بين عامي 1954 و1958، والتي ازدهرت فيها التعددية الحزبية. إلا أن كل شيء توقف خلال فترة الوحدة مع مصر.
ومع الانفصال في عام 1961 عاد المجلس النيابي إلى العمل. ولكن سلطات انقلاب حزب البعث في 8 مارس/آذار 1963 قامت بحظر الحياة البرلمانية والحزبية بشكل كامل. وحين انقلب حافظ الأسد على رفاقه في عام 1970، قام بتغيير اسم البرلمان إلى "مجلس الشعب"، وعيّن أعضائه بشكل مباشر، واستخدمه نظام الأسد كهيكل شكلي لتجميل صورته أمام العالم، ووظفه كأداة لتوزيع الحصص والمكافآت على المقربين منه والموالين له.
تمر سوريا في المرحلة الراهنة بظروف انتقالية حساسة وبالغة التعقيد. ومع ذلك، هناك فرصة حقيقية كي تستعيد برلماناً يمثل جميع أطياف ومكونات الشعب السوري المتنوع، والأمر يتوقف في نهاية المطاف على ما سيحمله المجلس الجديد من رؤى وأفكار، والذي ينبغي تغيير اسمه ومضمونه بالكامل كي يشكل مجلساً نيابياً حقيقياً يعبر عن إرادة الشعب.